هل إلغاء "دولة إسرائيل" فكرة غير عملية؟
أكبر فرية يعمد لها فريق الاستخذاء والتفريط في تسويغ منهجه هي فرية استحالة إمكانية هدم الكيان الصهيوني وتفكيك دولة معترف بها من قبل الأمم المتحدة واعتبار الملايين من الصهاينة الغاصبين مجرمين خارجين على الشرعية وفاقدين للمواطنة على "أرضهم". وينطلق هؤلاء المجرمون – أعني أنصار مدرسة الاستخذاء والتفريط – من هذه المغالطة الشنيعة لتبرير تثبيت أركان "دولة إسرائيل" من خلال الموافقة على منحها صفة "الدولة اليهودية" وإعفائها من تنفيذ "حق العودة" وإعادة الأرض لأصحابها؛ بل فوق ذلك كله إطلاق يدها في التوسع في الضفة الغربية عن طريق الحديث عن "تبادل الأراضي".
والحقيقة أن التاريخ المعاصر القريب – لئلا نتحدث عن الأندلس وغزو الأمريكيتين وأستراليا – قد شهد عمليات تحطيم نظم سياسية عديدة تحطيماً نهائيًّا وللأبد؛ وشهد أيضا عمليات إجلاء للمجموعات البشرية بشكل كثيف ومهول يفوق عدديًّا كل المجاميع المعنية بالنقاش في المسألة الفلسطينية. كما قلنا فلا حاجة للعودة خمسمائة عامٍ للوراء؛ بل يكفي أن نتذكر أن حرب البوسنة التي وقعت منذ عقد ونيف شهدت إجلاء مئات آلاف البوسنويين – معظم المسلمين وقسم من الصرب والكروات – عن بيوتهم ولم يعد معظم هؤلاء لمساكنهم للآن رغم خضوع الدولة البوسنوية للحكم الأممي. ولا يبدو في الأفق أن نتائج ذلك القتال وتبديل السكان ستتغير فعلاً على المستوى القريب.
ولولا أن أمريكا وجدت حاجة سياسية استراتيجية لها في انتزاع انا حيوان وقليل ادبوفو من صربيا وزرع دولة جديدة في المنطقة يكاد كل الأوروبيين أن يكرهها بالإجماع - لولا ذلك لبقي المليون أو المليونان من ألبان انا حيوان وقليل ادبوفو خارج بلادهم حتى الساعة.
ولو عدنا ستة عقود للوراء – أي تمامًا لأيام نكبتنا – لشهدنا وقتها إحدى أكبر عمليات تحريك وتبديل السكان في التاريخ القريب؛ ونعني هنا ما حصل بين الهند وباكستان عشية الاستقلال عن بريطانيا. لقد أدى انفصال باكستان عن الهند إلى تغيير الوجه الديموغرافي لشبه قارة بأكملها؛ وبُدِّلَتْ ملامحُ إسلاميةٌ قديمةٌ وأصيلةٌ لمناطق عريقة في انتمائها للإسلام والحضارة الإسلامية لتصبح هندوسية الطابع. وجعلت تلك العملية ملايين السكان يهجرون مناطقهم للأبد (للأمانة يشمل هذا الرقم فضلاً عن المسلمين ملايين الهندوس والسيخ أيضا ممن رحلوا عن باكستان). وهكذا لو استمر الباحث في العودة في التاريخ للوراء لاكتشف أن اسبانيا المعاصرة لا تمت بصلة للأندلس منذ ستمائة عام أو سبعمائة عام. وأن غرب تركيا الإسلامي الصرف الآن لم يكن كذلك حتى الحرب العالمية الأولى؛ تلك الحرب التي شهدت ترحيل ملايين المسلمين البلقانيين إلى تركيا مقابل مسح الوجه الأرثودوكسي المسيحي لامتداد اليونان في شرق تركيا.
فإن كان العالم احتمل انتزاع مواطنين أصلاء مقيمين في أرضهم المتوارثة عن أجدادهم الغابرين (الهندوس في بعض مناطق الباكستان والمسلمين في مناطق عديدة من الهند واليونانيين في تركيا والمسلمين البلقانيين في قرابة عشر دول أوروبية) استجابةً لأحقاد التطهير العرقي؛ فإن فكرة تفكيك "دولة إسرائيل" الغريبة السرطانية الناشزة على المنطقة وتراثها وثقافتها؛ وقصيرة العمر بموازين التاريخ وحسابات الأمم طويلة المدى – فكرة تفكيك هذا الكيان هي أقرب للتحقيق والمنطق...خصوصًا مع تصاعد الزخم الرافض لهذه الإمارة الصليبية والمصر على استئصالها واستئصال الاضطراب والتخريب والتعطيل الذي مثلته لمسيرة وحدة المنطقة والأمة وتطورها وتقدمها.
لكن بسبب قوة "إسرائيل" هذه المستمدة من كونها بيدقًا متقدمًّا في يد الصليبية العالمية والصهيونية المتحالفة معها والمتخمة بالمال والسلاح والدهاء فإن عملية تفكيك "إسرائيل" تحتاج هي الأخرى إلى دهاء وإعداد وحشد استثنائي في الطاقات والجهود. فلم تنزل بالغرب قديمًا مصيبة مثل مصيبة فقد القدس؛ وسيكون للضياع الأكيد القادم للقدس من أيديهم وقع الصدمة عليهم مرة أخرى؛ ولذلك يحاول الغربيون بشتى الأوضاع تفادي هذا اليوم ويعملون على إبعاده وتأجيل موعده؛ وتأجيل موعد إنطلاق نهضة أممية إسلامية شاملة ترتكز لإنجاز عظيم – فتح القدس – سيستطيع إلهاب مشاعر مئات الملايين من المسلمين وسيبدأ برمزيته عملية رفع ركام قرنين وأكثر من تركة "الرجل المريض" والمهزوم والمتخلف والمنكسر عن صدور أبناء الأمة!
ولا شك أن الغربيين يعدون من ألوان وأشكال العقوبة والحوافز السلبية لنا – لا شد أنهم يعدون ويطبقون فعلاً الكثير منها لثني المقاومة والمجاهدين عن خوض طريق ذات الشوكة وبلوغ هدفهم النهائي؛ وما حصار غزة الهمجي المتوحش عنا ببعيد.
نحو خطة عملية لدفن "دولة إسرائيل"
لا شك أنني أتفهم استغراب البعض وتعجبهم من طرق موضوع كهذا كما لو أن "إسرائيل" توشك على إعلان الاستسلام والنزول على حكم كتائب القسام بعد قليل. قد أتفهم هذا التعجب لكنني أرده وأرفضه بكل موضوعية. فكما أن الكيان لا يوشك على الهزيمة صباح غد أو حتى في العام القابل؛ فإن الإعداد لقرب يوم الهزيمة والتجهيز لإخراج النصر إخراجا احترافيًّا؛ والتجهيز للحفاظ على النصر ليس عيبًا بحال. وحسبنا في هذا أن نأخذ قدوةً ومثلاً من خصمنا وعدونا الصحافي "ثيودور هرتزل" عرَّابِ الصهيونية العالمية؛ هذا الذي ألف كتابه بعنوان "الدولة اليهودية" في العام 1896؛ أي قبل اثنين وخمسين عامًا فقط من قيام الكيان!
هذا للمتعجبين المأخذوين من أهلنا وإخواننا. أما أعجاز النخل الخاوية التي توقف التاريخ بالنسبة لها عند هزيمتنا – وبالتالي عند تبوئها مهمة بيع فلسطين في سوق النخاسة الصهيونية - ففي فمها الحجر؛ والعار والصغار لها قالت أم لم تقل! ولست أعبأُ بها شكَّكَت بلؤمٍ وانتهازيةٍ أو تساءلت بعقلانية وموضوعية عن البحث في أمر "يرونه بعيدا ونراه قريبا"!
ولذلك أنا أدع التردد جانبًا وانتقل لموضوع بحثي فأسألُ جهرةً وأفكر بصوتٍ عالٍ عن إجابة السؤال التالي: ما هي الإجراءات السياسية والإعلامية والميدانية التي يجب أن يتخذها أبطال حرب التحرير الفلسطيني قبيل سقوط الكيان وأثناء سقوطه وبعد سقوطه لضمان تأمين الانتصار على الصهاينة وتحطيم الحملة الصليبية العاشرة ومنع الحملة الصليبية الحادية عشرة من الانطلاق؟ (أرجو أن لا نختلف في جزئية عدد الحملات الصليبية...فالحملات القديمة هناك من عدها سبعًا وهناك من عدها تسعًا تبعًا للمنهجية المتبعة عند كل باحث...وإن شئنا اعتبار كل عمليات غزو البلاد الإسلامية في العصر الحديث حملاتٍ صليبية فلا شك أن الرقم سيتحول إلى عددٍ من ثلاثِ منازل عشرية...)
الهدف من الإعداد لجنازة الكيان
سأعيد طرح السؤال الذي سألناه آخر الجزء الماضي من الحديث ولكن بعد تفكيكه إلى مركبات أكثر قربًا من واقعنا السياسي ولغة العصر؛ والنتيجة حسب وجهة نظري المتواضعة تتلخص في مجموعة الأسئلة التالية:
- ما هي الإجراءات التمهيدية التي نحتاج لها سياسيًّا وإعلاميًّا ودعويًّا للتمهيد لليلة سقوط الكيان الصهيوني؟ (أعني بها الليلة التي سيبسط المجاهدون فيها نفوذهم على كل أو أغلب مناطق فلسطين وخصوصًا مدينة القدس؛ وسيتمكنون من محاصرة وعزل آخر أشكال المقاومة العسكرية للصهاينة)
- ما هي الإجراءات القانونية والسياسية والإعلامية والميدانية التي ستضمن إحقاق الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي وتحرس هدفنا المشروع في استرداد كل حقوقنا الوطنية والإسلامية في فلسطين – ناهيك عن حقوق الأفراد – وستضمن إنزال العقوبة القصوى العادلة في كل صهيونيٍّ ارتكب جرائم في حق فلسطين والدول العربية والإسلامية التي تضررت من الاحتلال الصهيوني؟
- كيف ننفذ هدم الكيان بطريقة تجنبنا ما أمكن أي سخط دولي وأي حلف صليبي سريع يقوم على عجل للانتقام منا من جهة؛ وللحيلولة دون خسارة الغرب قلعته المتقدمة في قلب الأمة الإسلامية؟ أو في أسوأ الأحوال: كيف نعمل على هدم هذا الجهد ولو جزئيًّا؛ وسلبه بعض أوراق القوة والفت في عضده.
- كيف نمنع اللوبي الصهيوني العالمي والصليبية العالمية من إعادة تجميع كتل اليهود الذين قد يكونوا فروا أو انتقلوا من فلسطين – كيف نمنعهم من تجميعهم وتأليفهم (أو نرفع كلفة ذلك عليهم) لتشكيل رأس حربة جديدة تشن هجومًا سياسيًّا وإعلاميًّا على الدولة الفلسطينية الجديدة وعلى المنطقة تحت مظلة كل الشعارات القابلة للاستخدام في هذا السياق مثل:
- - الدولة الفلسطينية الجديدة ارتكبت جرائم حرب ونفذت مجازر جماعية (طبعًا سيقولون هذا حتى عن مصرع الضباط والجنود في ميادين القتال!)
- - الدولة الفلسطينية الجديدة ارتكبت جرائم تشبه جرائم النازيين
- - الدولة الفلسطينية الجديدة سرقت سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة
- - ليس من حق الدولة الجديدة أن تسرق حقوق المواطنة للصهاينة عامة والمولودين على أرض فلسطين خاصة
- - على الدولة الجديدة الالتزام بالشرعية الدولية تحت طائلة التعرض لعقوبات الأمم المتحدة ومجلس الأمن حسب البند السابع (إرسال قوات لإخضاع واسقاط النظام الجديد)
- - على الدولة الجديدة الالتزام بإعادة كل الصهاينة الذين فروا من فلسطين تحت طائلة الخوف وتعويضهم عن ممتلكاتهم والاستعداد للمحاسبة بسبب ما ارتكبته من جرائم
طبعًا ترد كل هذه المفردات التجريمية بمنظارهم "هم"!
إن رؤوس الأقلام التي يكتبها العبد الفقير تهدف إلى التنبيه وقرع الجرس بخصوص الإعداد لتلك المرحلة. وهو إعدادٌ لا يقل أهمية عن كل الجهود السياسية الأخرى التي تسعى لإكمال وتسديد سعي كتائب القسام الحثيث للنصر من خلال زيادة قوتها العسكرية. وإن كنت مقصرًا قليل حظٍّ في الإلمام بكل المباحث اللازمة لإجابة هذه الأسئلة أعلاه فإنني أحتسب عند الله هذه المحاولة؛ راجيًا من القيادة الفلسطينية الشريفة أن توكل مهمة هذا الملف لجهات مختصة من خيرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأصدقائنا الأجانب من أحرار العالم ليتولوا صياغة مشروع دفن "دولة إسرائيل" بأسلوب ذكي ومحكم ونظيف ينجي فلسطين ما بعد الاحتلال من كل تبعات الهزات الارتداداية. ولا شك أن هذا سيكون مشروعًا ضخمًا يحتاج إعدادًا وترتيبًا كبيرًا؛ وسيحتاج لتجنيد جيش من القانونيين والخبراء في السياسة والإعلام ممن يجب أن يكتبوا سيناريو تحطيم دولة الكيان بأسلوب يكمل النجاحات الكبرى والمركزية والجذرية التي لن نستغني عنها لتحقيق هذا النصر – وأعني بها النجاحات المرتقبة لكتائب القسام وأخواتها من حركات الجهاد والقتال والنضال في صرع الكيان؛ كلُّ ذلك طبعًا تحت مظلة توفيق الله الذي بدونه ما كنا لنهتدي أو نصيب حظًّا من فلاح.
كانت تلك هي الأسئلة...تعالوا الآن لنفكر في "رؤوس أقلام" الإجابات بصوتٍ عالٍ في الأجزاء التي ستتبع من هذا الحديث...
قبيل سكرات الموت
ستكون هذه مرحلة إعداد الحنوط للكيان الصهيوني. الكيان حينها يتلقى بإذن الله ضربات متصاعدة من المقاومة الفلسطينية والمراقبون وصلوا لقناعة بقرب هزيمة الكيان هزيمة شاملة. في هذه الأثناء؛ من الضروري أن يكون أصدقاء وأعوان القسام والمقاومين قد نشطوا في وضع ترتيبات تعجل بقدوم ساعة الهلاك المحتم من جهة؛ وتعمد لنزع فتيل أية ترتيبات تصحيحية يعمد لها الصهاينة والصليبية العالمية لإنقاذ الكيان وهو في النزع الأخير أو بعيد السقوط مباشرة.
ولعل هذا يشمل الآتي:
- العمل على إطلاق رسائل إعلامية قوية ومكثفة بكل وسائل الإعلام المتاحة – وبلغات يفهمها الجمهور الصهيوني وتشمل العربية المحكية والانجليزية والعبرية والروسية وغيرها - وتضمين هذه الرسائل حوافز إيجابية وأخرى سلبية للفرار من الكيان. الحوافز السلبية قد تشمل نقل صورة الغضب والإصرار الشعبي الفلسطيني والعربي والإسلامي على تفكيك الدولة العنصرية ولو بالقوة القصوى. أما الحوافز الإيجابية فقد تأتي على شكل تسريباتٍ ملتبسةٍ ومموهةٍ قد توحي – دون أن تقول ذلك صراحة – أن الصهيوني الذي سيفر من فلسطين قد ينجو بنفسه فعلاً من الملاحقة القانونية لاحقًا وسينقذ نفسه من خسارة ماله وتعريض حياته للخطر جراء التواجد في "ميدان قتال". (علمًا بأننا لا يجب أن نسلم اعتباطيًّا بإعفاء أي صهيوني من الملاحقة القانونية؛ بما في ذلك الصهاينة الذين غادروا فلسطين في يومنا هذا! وسيأتي تفصيل ذلك لاحقًا!)
- مخاطبة الدول التي لها رعايا صهاينة في فلسطين – أصحاب الهويات المزدوجة – وإغراؤها بخطط إجلاء لهم مقابل حوافز إيجابية أو سلبية (هذا يصلح قبل سقوط الكيان وبعده؛ وإن كان "ثمن" الصفقة متغيرا تبعًا للتوقيت).
- مخاطبة العالم أجمع بتراث التضحية والإصابات والخسائر الضخم – خصوصًا الخسائر ذات الطابع الإنساني- التي مُنِيَ بها شعبنا والشعوب العربية التي اكتوت بنار الاحتلال الصهيوني؛ وتقديم هذا كمسوغ لأية ردات أفعال ستقع على الأرض عقب سقوط الدولة الصهيونية ومن خلال ربطٍ غيرِ مباشر.
- إغراء الصهاينة بالنجاة والسلامة إن هم وضعوا السلاح وكفوا عن المقاومة دون وعود قاطعة واضحة بالنجاة من المحاسبة.
- تهديد آخر جيوب المقاومة الصهيونية في فلسطين بالويل والهلاك المحتم إن هي حاولت ارتكاب حماقات ما – مثل إطلاق صواريخ بعيدة المدى على المدن العربية أو استخدام السلاح النووي – وتوجيه رسائل حازمة للغرب أن أي حماقة كهذه قد تقابل بقيام أجنحة "متطرفة" بشن حرب شعواء غير مسبوقة ضد الصهاينة في فلسطين وبالإعداد لحرب مقدسة لرد العدوان الذي ستحمل الأمة مسؤوليته للغرب عامة. كما يجب التحذير من أن هذا قد يجعل النظام الجديد في فلسطين مضطرًّا لاستخدام السلطان الروحي والعقلي اللامحدود الذي سيملكه الجالس على مقعد عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي على قلوب وأدمغة المسلمين من مراكش إلى جاكرتا – استخدام كل هذه القوة لخلق اضطراب كوني واسع النطاق!
وأحسب أن لمثل هذا الكلام سحره وسلطانه – خصوصًا ما يتصل باسم السلطان الناصر صلاح الدين وما له من سمعة أسطورية عند بعض النخب الغربية!
...